فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)}.
موقع هذا موقع الاستدراك على قوله: {عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} [النمل: 72] أي أن تأخير العذاب عنهم هو من فضل الله عليهم.
وهذا خبر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم تنبيهًا على أن تأخير الوعيد أثر من آثار رحمة الله لأن أزمنة التأخير أزمنة إمهال فهم فيها بنعمة، لأن الله ذو فضل على الناس كلهم.
وقد كنا قدمنا مسألة أن نعمة الكافر نعمة حقيقية أو ليست نعمة والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي.
والتعبير ب {ذو فضل} يدل على أن الفضل من شئونه.
وتنكير {فضل} للتعظيم.
والتأكيد ب {إن} واللام منظور فيه إلى حال الناس لا إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم فالتأكيد واقع موقع التعريض بهم بقرينة قوله: {ولكن أكثرهم لا يشكرون}.
و{لكن} استدراك ناشيء عن عموم الفضل منه تعالى فإن عمومه وتكرره يستحق بأن يعلمه الناس فيشكروه ولكن أكثر الناس لا يشكرون كهؤلاء الذين قالوا {متى هذا الوعد} [النمل: 71] فإنهم يستعجلون العذاب تهكمًا وتعجيزًا في زعمهم غير قادرين قدر نعمة الإمهال.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)}.
موقع هذا موقع الاستئناف البياني لأن قوله: {وإن ربّك لذو فضل على الناس} [النمل: 73] يثير سؤالًا في نفوس المؤمنين أن يقولوا: إن هؤلاء المكذبين قد أضمروا المكر وأعلنوا الاستهزاء فحالهم لا يقتضي إمهالهم؟ فيجاب بأن الذي أمهلهم مطلع على ما في صدورهم وما أعلنوه وأنه أمهلهم مع علمه بهم لحكمة يعلمها.
وفيه إشارة إلى أنهم يكنون أشياء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، منها: أنهم يتربصون بهم الدوائر، وأنهم تخامر نفوسهم خواطر إخراجه وإخراج المؤمنين.
وهذا الاستئناف لما كان ذا جهة من معنى وصف الله بإحاطة العلم عطفت جملته على جملة وصف الله بالفضل، فحصل بالعطف غرض ثان مهم، وحصل معنى الاستئناف البياني من مضمون الجملة.
وأما التوكيد ب {إن} فهو على نحو توكيد الجملة التي قبله.
ولكَ أن تجعله لتنزيل السائل منزلة المتردد وذلك تلويح بالعتاب.
و{تكن} تخفي وهو من أكن إذا جعل شيئًا كانًّا، أي حاصلًا في كن.
والكنّ: المسكن.
وإسناد {تكن} إلى الصدور مجاز عقلي باعتبار أن الصدور مكانه.
والإعلان: الإظهار.
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)}.
عطف على جملة {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} [النمل: 74].
وهو في معنى الذييل للجملة المذكورة لأنها ذكر منها علم الله بضمائرهم فذيل ذلك بأن الله يعلم كل غائبة في السماء والأرض.
وإنما جاء معطوفًا لأنه جدير بالاستقلال بذاته من حيث إنه تعليم لصفة علم الله تعالى وتنبيه لهم من غفلتهم عن إحاطة علم الله لما تكن صدورهم وما يعلنون.
والغائبة: اسم للشيء الغائب والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالتاء في العافية، والعاقبة، والفاتحة.
وهو اسم مشتق من الغيب وهو ضد الحضور، والمراد: الغائبة عن علم الناس.
استعمل الغيب في الخفاء مجازًا مرسلًا.
والكتاب يعبر به عن علم الله، استعير له الكتاب لما فيه من التحقق وعدم قبول التغيير.
ويجوز أن يكون مخلوقًا غيبيًا يسجل فيه ما سيحدث.
والمبين: المفصل، لأن الشيء المفصل يكون بيّنًا واضحًا.
والمعنى: أن الله لا يعزب عن علمه حقيقة شيء مما خفي على العالمين.
وذلك يقتضي أن كل ما يتلقاه الرسل من جانب الله تعالى فهو حق لا يحتمل أن يكون الأمر بخلافه.
ومن ذلك ما كان الحديث فيه من أمر البعث الذي أنكروه وكذبوا بما جاء فيه.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}.
إبطال لقول الذين كفروا {إن هذا إلا أساطير الأولين} [النمل: 68].
وله مناسبة بقوله: {وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} [النمل: 75]، فإن القرآن وحي من عند الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكل ما فيه فهو من آثار علم الله تعالى فإذا أراد الله تعليم المسلمين شيئًا مما يشتمل عليه القرآن فهو العلم الحق إذا بلغت الأفهام إلى إدراك المراد منه على حسب مراتب الدلالة التي أصولها في علم العربية وفي علم أصول الفقه.
ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن من تحقيق أمور الشرائع الماضية والأمم الغابرة مما خبطت فيه كتب بني إسرائيل خبطًا من جراء ما طرأ على كتبهم من التشتت والتلاشي وسوء النقل من لغة إلى لغة في عصور انحطاط الأمة الإسرائيلية، ولما في القرآن من الأصول الصريحة في الإلهيات مما يكشف سوء تأويل بني إسرائيل لكلمات كتابهم في متشابه التجسيم ونحوه، فإنك لا تجد في التوراة ما يساوي قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11].
فالمعنى: نفي أن يكون أساطير الأولين بإثبات أنه تعليم للمؤمنين، وتعليم لأهل الكتاب.
وإنما قص عليهم أكثر ما اختلفوا وهو ما في بيان الحق منه نفع للمسلمين، وأعرض عما دون ذلك.
فموقع هذه الآية استكمال نواحي هدي القرآن للأمم فإن السورة افتتحت بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعمهون في ضلالهم فلم ينتفعوا بهديه.
فاستكملت هذه الآية ما جاء به من هدي بني إسرائيل لما يهم مما اختلفوا فيه.
والتأكيد ب {إن} مثل ما تقدم في نظائره.
وأكثر الذي يختلفون فيه هو ما جاء في القرآن من إبطال قولهم فيما يقتضي إرشادهم إلى الحق أن يبين لهم، وغير الأكثر ما لا مصلحة في بيانه لهم.
ومن مناسبة التنبيه على أن القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر ما هم فيه مختلفون، أن ما قصه مما جرى بين ملكة سبأ مع سليمان كان فيه مما يخالف ما في كتاب الملوك الأول وكتاب الأيام الثاني ففي ذينك الكتابين أن ملكة سبأ تحملت وجاءت إلى أورشليم من تلقاء نفسها محبة منها في الاطلاع على ما بلغ مسامعها من عظمة ملك سليمان وحكمته، وأنها بعد ضيافتها عند سليمان قفلت إلى مملكتها.
وليس مما يصح في حكم العقل وشواهد التاريخ في تلك العصور أن ملكة عظيمة كملكة سبأ تعمد إلى الارتحال عن بلدها وتدخل بلد ملك آخر غير هائبة، لولا أنها كانت مضطرة إلى ذلك بسياسة ارتكاب أخف الضرين إذ كان سليمان قد ألزمها بالدخول في دائرة نفوذ ملكه، فكان حضورها لديه استسلامًا واعترافًا له بالسيادة بعد أن تنصلت من ذلك بتوجيه الهدية وبعد أن رأت العزم من سليمان على وجوب امتثال أمره.
ومن العجيب إهمال كُتّاب اليهود دعوة سليمان بلقيس إلى عقيدة التوحيد وهل يظن بنبي أن يقر الشرك على منتحليه.
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}.
هذا راجع إلى قوله في طالع السورة {هدى وبشرى للمؤمنين} [النمل: 2] ذكر هنا لاستيعاب جهات هدي القرآن.
أما كونه هدى للمؤمنين فظاهر، وأما كونه رحمة لهم فلأنهم لما اهتدوا به قد نالوا الفوز في الدنيا بصلاح نفوسهم واستقامة أعمالهم واجتماع كلمتهم، وفي الآخرة بالفوز بالجنة.
والرسالة المحمدية وإن كانت رحمة للعالمين كلهم كما تقدم في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} في سورة [الأنبياء: 107] فرحمته للمؤمنين أخص.
والتأكيد ب {إن} منظور فيه إلى المعرض كما تقدم في قوله: {وإن ربك لذو فضل على الناس} [النمل: 73].
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)}.
لما سبق ذكر المشركين بطعنهم في القرآن وتكذيبهم بوعيده، وذكر بني إسرائيل بما يقتضي طعنهم فيه بأنه لمخالفة ما في كتبهم، وذكر المؤمنين بأنهم اهتدوا به وكان لهم رحمة فهم موقنون بما فيه، تمخض الكلام عن خلاصة هي افتراق الناس في القرآن فريقين: فريق طاعن، وفريق موقن، فلا جرم اقتضى ذلك حدوث تدافع بين الفريقين.
وهو مما يثير في نفوس المؤمنين سؤالًا عن مدى هذا التدافع، والتخالف بين الفريقين ومتى ينكشف الحق، فجاء قوله: {إن ربك يقضي بينهم بحكمه} استئنافًا بيانيًا فيعلم أن القضاء يقتضي مختلفين.
وأن كلمة بين تقتضي متعددًا، فأفاد أن الله يقضي بين المؤمنين بالقرآن والطاعنين فيه قضاء يبين المحق من المبطل.
وهذا تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن استبطائهم النصر فإن النبي أول المؤمنين، وإنما تقلد المؤمنون ما أنبأهم به فالقضاء للمؤمنين قضاء له بادىء ذي بدء.
وفيه توجيه الخطاب إلى جناب الرسول صلى الله عليه وسلم وإسناد القضاء إلى الله في شأنه بعنوان أنه رب له إيماء بأن القضاء سيكون مرضيًا له وللمؤمنين.